بعد الهزيمة النكراء والقاسية التي منيت بها الدول العربية من قبل إسرائيل، في الخامس من حزيران 1967، وبعد فترة من الانتصارات وتحقيق الأماني القومية بقيادة البطل الخالد جمال عبد الناصر، كان وقع الهزيمة قاسيًا على الشعب العربي من محيطه، مرورًا بالأقلية العربية داخل إسرائيل إلى خليجه. وجراء الهزيمة انهارت قيم سياسية وأخلاقية كثيرة. وأدرك الحزب الشيوعي أبعاد نفسية الهزيمة و"الحوقلة لا غير" فأخذ يعمل وينفض الغبار ويصعد من بين الرماد كالعنقاء. الكل يذكر أن جمال عبد الناصر، أعطى مثلاً في سنة 1968 لمظاهرة قادها الشيوعيون في الناصرة لتكون نموذجًا ومثلاً يحتذى به للتخلص من آثار الهزيمة والبناء من جديد.
وانطلق شعراء المقاومة بثقافتهم الإنسانية وأدبهم الثوري الّلذان أثارا إعجاب الشعوب العربية وقوى التحرر والتقدم في العالم أجمع. وأدرك الحزب أهمية دور الكلمة وهيأ لهم الظروف للعمل كـ"محترفي حزب" وفتح لهم أبواب "الاتحاد" و "الجديد" و"الغد"، ونهلوا من مبادئه الإنسانية والوطنية. وجاء في الموسوعة الفلسطينية، أن حركة شعر المقاومة ألّفت برهة تاريخية في حركة الشعر العربي المعاصر، وقد جاءت على أثر هزيمة 1967 لا لتعبّر عن الظرف العربي الجديد برمته، بل لتحدث تطورًا في حركة التعبير الشعرية العربية مثلما جاءت الثورة الفلسطينية المسلحة لتحدث وخزة عنيفة في الضمير العربي وتدفعه المقاومة إثر هزيمة الجيوش لتلقّي الصدمة العنيفة التي أحدثها الغزو في النفوس. وجاء في قصيدة سميح القاسم "ريبورتاج.. عن حزيران عابر!":
"المارد يطلع من مارد
وملايين تنبض في الساحات
تفيض في الساحات. تموج. تغني. تبكي.
قلبًا واحد
وفمًا واحد:
لسنا شعب الخامس من شهر حزيران
نحن ككل شعوب الأرض
نملك أيام السنة الشمسية
والسنة القمرية
نعرف كل فصول الحب ونعرف كل فصول البغض
نعرف حزن الجزر
ونعرف عنف المد"19
وجاء في قصيدة الشاعر سالم جبران:

"أنا لست أبكي
ولن تجدوا في نشيدي
ولو ظل لحن حزين
عرفت المنافي
عرفت السجون
عرفت الضياع الذي صار
أسطورة لعذاب
عرفت الخيام،
عرفت حياة إذا عرفتها
ستعرف منها المنون
أنا لست أبكي
فأبشع من كل ما كان –
ليس يكون!"20

وهكذا أصبحت الطريق ممهدة لظهور صوت جديد معبر عن المأساة وما لبث هذا الصوت البكر أن جسده شعراء المقاومة حاملين نغمة حزن شفافة توائم جو النكسة وتعبر عن الروح الثورية المقاومة.
وكانت أشعار توفيق زيّاد ومحمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران وغيرهم يتلقفها المثقفون في العالم العربي ومذياعات الدول العربية لتبث في النفوس روح الأمل والمقاومة وهزيمة الهزيمة. وأذاع "صوت العرب" قصيدة توفيق زيّاد "القريب الآتي" والتي جاء فيها:
"آتٍ ذاك اليوم
قريبًا.. آت
وسأحمل قيثاري وأغني
فوق الطرقات
في مدني وقراي المملوءة
بالخيرات
وجبالي الشمّاء، وفي الغابات
سأغني
للإنسان المتحرر
من كل المغتصبين
من كل المحتلين الغازين
للشعب المتحرر من خوف
الحاضر والمستقبل
وهموم الدنيا والدين
سأغني..
في كل مكان، ومكان:
في القدس العربية
في غزة والجولان!
"وطني محتلاً كان
وطني – أصبح حرًا
والمحتل الغاصب – كان
واليوم،
تحوّل
ذكرى...!!"

وصوت محمود درويش:

"طلعت من الوادي،
وفي الوادي تموت..
ونحن نكبر في السلاسل
طلعت من الوادي مفاجأة
وفي الوادي تموت على مراحل.
... ونمر عليها الآن جيلاً بعد جيل!
ونبيع زيتون الجليل بلا مقابل
ونبيع أحجار الجليل
ونبيعها
كي نشتري في صدرها شكلاً لمقتول يقاتل..."21

فذاع صيت هذه الأقلية الصامدة والمناضلة وشعرائها الشيوعيين الذين كتب عنهم نزار قباني:
"محمود الدرويش.. سلاما
توفيق الزيّاد.. سلاما
يا فدوى طوقان.. سلاما
يا من تبرون على الأضلاع الأقلاما
نتعلم منكمْ..
كيف نفجّر في الكلمات الألغاما
شعراء الأرض المحتلة
ما زال دراويش الكلمة
في الشرق، يكشّون حماما
يحسون الشاي الأخضرا.. يجترون الأحلاما..
لو أن الشعراء لدينا، يقفون أمام قصائدكم
لبدوا أقزامًا.. أقزاما"22

وتجاوزت أخبار ومواقف الأقلية العربية وشعرائها العالم العربي لتصل أحرار العالم كافة، فكتبت جريدة "أنباء موسكو" في شتاء 1970:
"منذ تجاوزت أصوات شعراء المقاومة في إسرائيل أسوار السجن الكبير.. سرى في عروق الشعر العربي دم جديد وأنصت الجميع إلى هذا النبض الخافق العنيف، والذي يحمل في كل كلمة رائحة الجذور المتشبثة بالأرض..
وأصبح الشعر تكفيرًا وميلادًا وتمردًا وثورة"23.
وإزاء مواقف شعراء المقاومة الوطنية والإنسانية الرائعة والتي اختارت الكفاح – غير المساوم – الدمقراطي، أصاب السلطة الجنون وأخذت بالتحريض عليهم واتهمتهم بأنهم ليسوا شيوعيين وامميين وإنما قومجيون وجدوا في الحزب الشيوعي مأوى لهم فانضموا إليه غير مقتنعين بمبادئه الإنسانية. والغريب في الأمر أن هنالك قوى في الوسط العربي ادعت الإدعاء ذاته، فنترك الإجابة على هذه الإدعاءات لمحمود درويش وتوفيق زيّاد. فكتب الأول " ... ازداد اقترابنا من الأوساط اليسارية، وصرنا نقرأ مبادئ الماركسية التي اشعلتنا حماسًا وأملاً. وقوت شعورنا بضرورة الانتماء إلى الحزب الشيوعي الذي كان يخوض المعارك دفاعًا عن الحقوق القومية ودفاعًا عن حقوق العمال الاجتماعية. وحين شعرت أني أملك القدرة على أن أكون عضوًا في الحزب دخلت إليه عام 1961 فتحددت معالم طريقي وازدادت رؤيتي وضوحًا وصرت أنظر إلى المستقبل بثقة وإيمان. وترك هذا الانتماء آثارًا حاسمة على سلوكي وعلى شعري"24 ويقول توفيق زيّاد في المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي: "في الصحف الرجعية في البلاد تظهر مختلف كتابات الافتراء والاتهام ضدنا. ولكن أكثر التهم سوءًا، التي يوجهونها ضدنا هي أن الشعراء والكتاب التقدميين والثوريين العرب ليسوا شيوعيين حقيقيين، وإنما هم قوميون متخفون في صفوف الحزب الشيوعي. إن السبب لهذا الرأي الكاذب يكمن في أن الرجعية وحلفاءها لا يتصورون أن العقلية العربية تستطيع أن تفهم ما هي الطبقة، وما هي الماركسية – اللينينية، وكأنما هذا فوق قدرة العقلية العربية. ولكنهم مخطئون ويغالطون عن عمد. نحن لسنا شوفينيين، ولم نكتب أبدًا ولو سطراً واحداً يمكن تفسيره بالشوفينينة. نحن شيوعيون"25.
وإلى جانب شعر المقاومة كان هناك أدب المقاومة، فمثلاً العمل الأدبي الذي قدمه القائد الشيوعي والكاتب المبدع إميل حبيبي – سداسية الأيام الستة – لقي انتشارًا واسعًا في العالم العربي.. كما قرظه كبار النقاد العرب واعتبروه أفضل عمل نثري فني تناول نفسية الإنسان الفلسطيني وأوضاعه في ظروف نكسة الخامس من حزيران 1967.
ومن الجدير ذكره أن الشعر الفلسطيني المحلي كان له أدواراً هامه في مختلف النضالات ومنها معركة الصمود والبقاء والتحدي.
"كأننا عشرون مستحيل
في اللد والرملة والجليل
هنا على صدوركم باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة زجاج كالصبّار
وفي عيونكم
زوبعة من نار"
(توفيق زيّاد – "هنا باقون")

وفي التشبث بالإنتماء القومي والعزة القومية مقابل سياسة العدمية والإستعلاء القومي.
"سجّل! أنا عربي
ولون الشعر.. فحميّ
ولون العين.. بنيّ
وميزاتي:
على رأسي عقال فوق كوفية
وكفي صلبة كالصخر...
تخمش من يلامسها"
(محمود درويش – "بطاقة هوية")
وفي التمسك في البعد الكفاحي الإنساني التقدمي.
"يا أصدقاء كفاحنا!
غالٍ دمي المسفوك غالِ
أنا عامل.. إنسان
إنسانيتي هي رأسمالي
أنا أعرف التاريخ..
عشت خضم أعصره الحوالي
أنا عامل..في طبقتي
سرٌ أعز من المحالِ:
"عبدٌ أنا.. إن كنت أصمتُ
"لو أصاب الذلّ غيري"
"وإذا رضيتُ بحفرِ قبركَ
كنت كالحفار قبري"
من أجل هذا رحتُ أحمل
كلّ ظلمٍ.. لا أبالي

(توفيق زيّاد – "المناشير المحروقة". كتبت هذه القصيدة العام 1961
إلى الأصدقاء اليهود الذين وزّعوا المناشير عن الشهداء العرب الخمسة في قلب تل – أبيب – ساحة ديزنكوف – فاعتدى عليهم أجراء البوليس ومزّقوا ثيابهم وحرقوا لهم المناشير وكتبهم التي كانوا يحملونها).
ملاحظة: هذا عرض قصير عن دور شعراء وأدباء الحزب الشيوعي في مقاومة الظلم وفي الصمود والتحدي وفي التشبث بالفكر الإنساني التقدمي وفي توعية جماهيرنا على أهمية الكفاح التقدمي ورفض الظلم وبالطبع فهذه ليست دراسة حول شعر المقاومة بابعادها الهامة والمختلفة.